أفلاطون: أول منظّر للتربية

شهدت أثينا، زمن أفلاطون، في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، طفرة فكرية وثقافية أثّرت بشكل جذري في مفهومَي التربية والتعليم. ففي هذه الحقبة التاريخية، وفي ظل الديمقراطية الآثينية الناشئة، اكتسب التعليم بُعدًا جديدًا لم يكن موجوداً من قبل، متجاوزاً حدود التّلقين ونقل المعرفة إلى أداة أساسية في تشكيل الحياة العامّة وبناء نظام ديمقراطي قوي ومُستدام.

لقد اتجهت العقول في أثينا إلى استثمار التعليم كوسيلة لتأهيل الأفراد للمشاركة الفعّالة في الحياة السياسية، إذ كان هناك وعي متزايد بأن نجاح الديمقراطية يعتمد أساسا على قدرة المواطنين على المشاركة الفعّالة في النقاشات العامة، والتأثير في القرارات التي تمس حياة المجتمع بأسره. وهنا بدأ التعليم يلعب دوراً حاسماً، إذ لم يعد الهدف منه مجرد إتقان مهارات معينة، بل أصبح مرتبطاً بتكوين مواطنين قادرين على التفكير النقدي ومُتمكّنين من الخطابة والإقناع.

التعليم عند السفسطائيين

لعب السفسطائيون، وهم مجموعة من الفلاسفة والمدرسين المدفوعي الأجر، دوراً بارزاً في تشكيل مفهوم التعليم في أثينا. ففي مجتمع كان فيه الجميع يبحث عن فرص لتحسين وضعهم الاجتماعي والسياسي، حظيت رؤيتهم للتعليم كأداة لتحقيق النجاح الفردي بشعبية كبيرة.

لم تكن المعرفة بالنسبة للسفسطائيين هدفاً بحد ذاتها، كما لم يكن هدف التعليم بالنسبة لهم هو الوصول إلى الحقيقة المطلقة أو الفضيلة الأخلاقية. ذلك أنهم لم يكونوا أساسا يؤمنون بوجود حقيقة مطلقة، بل إن كل المفاهيم من وجهة نظرهم هي نسبية، وتعتمد على وجهة نظر الفرد. الإنسان هو «مقياس كل الأشياء»، هذه العبارة الشهيرة لبروتاغوراس (485ـ411 ق.م)، أبرز ممثلي المدرسة السفسطائية، تختصر كل موقفهم في هذا الباب.

من هذا المنطلق، كان السفسطائيون يؤمنون بأن الهدف من التعليم هو «إتقان فن الفعل والكلام لتحقيق أقصى فعالية». بعبارة أخرى، على التعليم أن يرتكز على المهارات العملية التي تُمكِن المتعلّم من تحقيق أهدافه الفردية. ومن تَمّ فقد كانت الدروس التي يُقدّمها السفسطائيون تُركّز على فنون البلاغة والإقناع، على أساس أنّ القدرة على التأثير في الآخرين هي مفتاح النجاح في أي مجال، في السياسة كما في القانون أو التجارة.

أفلاطون: رؤية بديلة للتعليم

عارض أفلاطون الرؤية السفسطائية للتعليم، فقد كان يرى أن على التعليم أن يهدف إلى أكثر من مجرد النجاح العملي أو الإقناع البلاغي. ذلك أنه كان يؤمن، عكس السفسطائيين، بوجود حقائق مطلقة متواجدة في عالم الأفكار الإلهي، وعلى الإنسان السّعي للوصول إلى هذه الحقائق. هذا هو المنطلق الذي جعل أفلاطون يرى أن التعليم يجب أن يُركّز على تطوير الفضائل الأخلاقية والمعرفة الحقيقية.

إلى جانب اكتشاف الحقيقة، ارتبط التعليم عند أفلاطون بالجمال والخير، مما جعله عملية شاملة تهدف إلى تطوير الفضائل الأخلاقية والفهم العميق للحقائق المطلقة، لتنشئة أفراد فضلاء، وأصحاب عقول سليمة، قادرين على حكم المدينة المثالية. من هذا المنظور، يتجاوز التعليم كونه مجرد وسيلة لتحقيق النجاح الفردي ليصبح أداة لبناء مجتمع عادل ومستقر.

شمولية الغاية الأفلاطونية من التعليم جعلته يرى أن النظام التعليمي يجب أن يُدار من قِبل الدولة، حيث أن عليها تحمُّل مسؤولية تعليم المواطنين لتمكينهم من القيام بواجباتهم تجاه المجتمع، وليس التركيز على التعليم الفردي كما كان عليه واقع الحال في الممارسة السفسطائية.

أفلاطون والتعليم النخبوي

خاض الأرستقراطي أفلاطون تجارب سياسية فاشلة قرّر بعدها إنشاء أكاديميته في أثينا حوالي عام 387 قبل الميلاد، والتي أصبحت واحدة من أولى المؤسسات التعليمية العليا في التاريخ. في هذه الأكاديمية، كان أفلاطون يُدرّس ويكتب مؤلفاته الحوارية الشهيرة، والتي وصلنا منها كتابه الأهم، “الجمهورية”، الذي يحتوي على رؤية فلسفية متكاملة عن التربية.

في كتابه “الجمهورية”، قدم أفلاطون تصوُّره للمجتمع المثالي، مجتمع يقوده “حكماء فلاسفة” بلغوا مستوى عميقًا من الفهم الفلسفي والأخلاقي ليتمكنوا من قيادة المجتمع بحكمة وعدالة.

رغم أن أفلاطون كان يؤمن بتعليم شامل وعادل من الناحية النظرية، إلا أنه كان يرى أن هناك فقط فئة معينة من الناس هي القادرة على تلقي تعليم متقدم. لم يكن يعتقد أفلاطون بأن الجميع مؤهل للوصول إلى أعلى مراتب المعرفة الفلسفية، بل كان يعتقد بأن بعض الأفراد يمتلكون قدرات فطرية تجعلهم أكثر تأهيلاً لفهم الحقائق العميقة. بناءً على هذه الفكرة، كان أفلاطون يرى أن التعليم يجب أن يكون نخبوياً، حيث يتم اختيار الأفراد بناءً على قدراتهم العقلية والفكرية لتلقي تعليم متقدم.

هذا التصور النخبوي للتعليم أثار العديد من التساؤلات حول الجوانب الأخلاقية والاجتماعية لهذه الفكرة: فإذا كان التعليم موجّهاً للنخبة فقط، فماذا عن بقية المجتمع؟ وهل يمكن لهذا التصور أن يؤدي إلى تهميش الأفراد “الأقل قدرة”؟ … رغم هذه التساؤلات، كان أفلاطون يرى أن تعليم النخبة ضروري لضمان وجود قادة حكماء قادرين على قيادة المجتمع نحو العدالة والحقيقة.

أفلاطون و تعليم المرأة

إذا كانت فكرة أفلاطون عن التعليم نُخبوية للغاية، ومبنيّة على التمييز العقلي بين الأفراد، وتنادي بضرورة وجود فئة من “الحراس” الذين يتلقون تعليمًا طويل الأمد ليصبحوا حكامًا فلاسفة، فإنه لم يستثن النساء من هذا النظام؛ حيث صرح بأن النساء اللواتي تُظهرن قدرات عقلية مناسبة، يجب أن تحصلن على نفس التعليم الممنوح للرجال.

يبدو أن أفلاطون كان يتمتع برؤية تقدمية بشكل مفاجئ حول تعليم النساء، عكس التوجه العام للمجتمع الآثيني، الذي كان مجتمعاً تقليدياً في معظمه فيما يتعلق بدور المرأة. في كتابه “الجمهورية”، أشار أفلاطون إلى أن النساء اللواتي يمتلكن قدرات فطرية يمكنهن الحصول على نفس التعليم الذي يتلقاه الرجال. بل وذهب إلى أبعد من ذلك ليؤكد أنه يجب السماح للنساء القادرات بالمشاركة في الحكم، تمامًا مثل الرجال.  لقد كانت هذه الفكرة ثورية بالنسبة لزمانه، حيث كانت معظم المجتمعات الآثينية ترى أن دور المرأة يجب أن يقتصر على الشؤون المنزلية.

المنهاج التعليمي عند أفلاطون

في أكاديميته، طوّر أفلاطون منهاجًا تعليميًا قائماّ على الحوار والنقاش. وقد استلهم أسلوبه هذا من منهج معلمه سقراط، الذي كان يؤمن بأن أفضل طريقة للوصول إلى الحقيقة هي الحوار المفتوح والأسئلة المحفزة للتفكير النقدي. في هذا السياق، لم يكن التعليم بالنسبة لأفلاطون مسألة تلقين فقط، بل كان عملية تشاركية بين المعلم والطالب تهدف إلى تحفيز التفكير العميق والفهم الحقيقي. بل الأكثر من ذلك، أنّ العلاقات بين المعلمين والتلاميذ في الأكاديمية كانت قائمة على قيم الصداقة والحب، حيث كانت العلاقات الشخصية تعتبر جزءًا من عملية التعليم.

كان المنهاج التعليمي الذي وضعه أفلاطون شاملا وجِدّ طموح، إذ يبدأ التعليم في سن السابعة، حيث يتعلم الأطفال المبادئ الأساسية عبر الموسيقى، الرقص، الغناء، والجمباز. وكان أفلاطون يرى أن التعليم، في هذه المرحلة، يجب أن يكون مُوجّهاً لتنمية العقل والجسم بطريقة متوازنة. يمكن القول هنا أيضا أن أفلاطون كان سابقا جدًا لعصره، حيث دعا، على غرار ما تدعو إليه النظريات المعاصرة اليوم، إلى استخدام الألعاب التعليمية والطرائق النشطة. غير أنه أكد من جهة أخرى على ضرورة استبعاد القصص الخيالية والأساطير التي، وفقاً لرأيه، تؤدي إلى تشويه عقول الأطفال وإبعادهم عن الحقيقة.

بعد سن العاشرة، يبدأ الطلاب دراسة الأدب والرياضيات. وقد أعطى أفلاطون أهمية كبيرة للرياضيات، لأنها تساعد في تدريب الطلاب على التفكير المنطقي والتحليل المجرد، مما يُعدّهم لدراسة الفلسفة. وكان أفلاطون يرى أن الرياضيات أداة فعالة لتمييز “أفضل العقول” التي ستتمكن، في النهاية، من الدخول في مجالات التفكير الميتافيزيقي.

في سن الثامنة عشرة، يبدأ التركيز على التعليم البدني والعسكري، ثُمّ يتمّ تخصيص عشر سنوات لدراسة العلوم والرياضيات المتقدمة، ثم خمس سنوات لدراسة الجدل الفلسفي.

وأخيرًا، يقضي الطلاب خمس عشرة سنة في التدريب على الشؤون العامة، مما يضمن أن الخرّيجين قد تم إعدادهم بشكل كامل ليصبحوا قادة في المجتمع. ووفقاً لأفلاطون، «يستغرق تكوين الإنسان الكامل خمسين عامًا»، وهو ما قد يجعل تحقيق هذا النموذج المثالي غير واقعي بالنظر لمتوسط أمد الحياة في عصره، لكنه نموذج يتماشى مع الدعوات المعاصرة للتعليم مدى الحياة.

خلاصة

ترك نظام أفلاطون التعليمي تأثيراً كبيراً ومُتبايناً على المفكرين والفلاسفة الذين جاؤوا بعده. فمن جهة، شكلت أفكاره أساساً للعديد من النظريات التربوية الحديثة، ومن جهة أخرى، ما زال مبدؤه النخبوي والتمييز الذي اعتمد عليه في اختياره للطلاب مثار جدل كبير في الأوساط التعليمية. ورغم أنّ بعض جوانب منهاجه، مثل التركيز على الرياضيات واستخدام الألعاب التعليمية، تبدو متقدمة حتى بمعايير التعليم الحديث، إلّا أن أفكاره عن التحكم الكامل للدولة في النظام التعليمي، إضافة إلى رؤيته النخبوية، لا تتماشى مع المبادئ الديمقراطية التي تُفضّلها الأنظمة التعليمية في العصر الحالي.

في النهاية، يمكن القول أنّ أفلاطون كان رائداً في مجال التربية، حيث أسس لفكرة التعليم المنظم والموجه نحو تحقيق غايات أخلاقية وفلسفية، كما أن أفكاره حول ضرورة التكامل بين التعليم والعقل والأخلاق ما زالت تُلهم المفكرين في مجال التربية إلى يومنا هذا.

أضف تعليق